السينما في تشيك وسلوفاكيا: نظرة على الموجة التشيكيّة الجديدة

رغم صغر هذا البلد (10 مليون نسمة)، إلا أنّ النفوذ السينمائي للجمهوريّة التشيكيّة كان كبيراً نسبياً على الساحة الدوليّة. عند الحديث عن تشيكوسلوفاكيا فنحن نتحدث عن الدولة التي ظهرت وانتهت بين الأعوام 1918 إلى 1992 حيث انقسمت بتراضي تام بين الطرفين إلى جمهوريّة التشيك وسكلوفاكيا بعد أن حصلت أثناء ذلك (الستينيّات تحديداً) على جائزتي أوسكار، بينما حصلت التشيك وحدها على جائزة أخرى في التسعينيّات. وهذا غيض من فيض.

على غرار كل بلاد أوروبا الوسطى، فإن جمهوريّتا التشيك وسلوفاكيا تأثّرتا بالمعاناة من ويلات الحروب. تغيّرت الحدود مراراً وسقطت أنظمة وقامت أخرى بينما عاش رجال وقُتل آخرين. بالتالي من المهم معرفة أنّ أي رحلة إستكشافيّة في التاريخ السينمائي لتلك البلاد هو أيضاً، في نفس الوقت، بحث مفصّل في الهوية والتاريخ المعقد لتلك المنطقة.

بالمقارنة بدول الجوار(بولندا والمجر)، فإن التشيك وسلوفاكيا يتميّزان بإنتاج سينمائي خفيف (غير معقّد) واعتمد على حس الفكاهة البارع والحسّاس حتّى في أحلك الأوقات التي مرت بها البلاد وأكثرها ظلمة و لكن الإنتاج السينمائي الوطني في هذين البلدين كان مواكباً للثيمات العالميّة على طول الخط، إلّا أنّها تبقى حالة وطنيّة خاصّة في مجملها تستلزم معها بعض المعرفة بتاريخ هذين البلدين. لا أقول بضرورة الحصول على دكتوراة في التاريخ. فقط بعض المعرفة التي تكفي للفهم.

الموجة التشيكيّة الجديدة: نظرة عامّة

بضمّها لبعض أكثر الأفلام جاذبيّة تم إنتاجها في أوروبا فترة الستينات، فإن الموجة التشيكية الجديدة تعتبر “العصر الذهبي” للتاريخ السينمائي المميز للبلاد، ونقطة انطلاق واضحة لمن يريد التعرف أكثر على خصوصيّة الفيلم التشيكي. غالباً ما يتم تعريف الموجة التشيكية الجديدة من خلال مجموعة صغيرة نسبياً من المخرجين، بما في ذلك: ميلوش فورمان، بيري منزل، فيرا تشايتلوفه، جارومير جيرس و ايفان باسر، الذين بدأوا موجتهم في العام 1963 وما بعده. واستمروا في إنتاج أعمالهم المشهود لها عالميّاً لما يقارب نهاية العقد.

مع ذلك فإنه من المهم معرفة أن هذه المجموعة لم تكن تجمعها أي وثيقة أو قوانين مكتوبة، بل انها حتى لم تكن مجموعة رسميّة بالمعنى الطبيعي للكلمة. كما لا يمكن اسقاط هذه الموجة على أي موجات مماثلة نظراً لاختلافها عن أي نمط آخر. تميّزت بالرصد اللعوب للأحداث، فعكست الأفلام مشاهد حدثت كما هي على أرض الواقع. وعُرفت بما يسمى الشعر البصري، اللطف الانساني، السخرية العبثيّة، التجريبيّة والاثارة الجنسية.

ارتبطت افلام الموجة الفرنسيّة الجديدة باهتمامها بالسينما الأمريكيّة. حيث الجماليّة الخام الجاهزة ومشاهد اللقطة الواحدة والمرجعيّة الذاتيّة السينمائيّة.  أمّا الموجة التشيكيّة الجديدة فقد عُرفت على النقيض من ذلك باعتمادها على إنتاجات الأدب التشيكي. حيث سعت لأفلام مصقولة على الطريقة الكلاسيكيّة مع بعض التوليف التجريبي يتضمن مشاهد القطع السريع مثلاً، بل أبدت اهتماماً جريئاً بالاستعارة المفضوحة من السينما الكلاسيكيّة. في الحقيقة، كان هنالك عداء بين الموجتين، وكان جان لوك غودار، على وجه الخصوص، الأكثر قسوة حول هذا الأمر. حيث وصف السينما التشيكيّة في ذلك الوقت بأنها “برجوازيّة”. بينما تشاركت الموجتان بأنهما اعتمدا على طبيعيّة الانتاج، وتقليل الاعتماد على التصوير داخل الاستديو، حيث خرجت الطواقم لتصوير وعكست هواجس الناس كما هي و على طبيعتها.

على الرغم من ارتباط الموجة الجديدة بالنزعة الانسانية الليبراليّة، واشتهار تشيكوسلوفاكيا في الستينات بتجربتها التي حملت اسم: “الاشتراكيّة ذات الوجه الإنساني” خلال ربيع براغ عام 1968، إلا أن تداخلاً كبيراً حدث بين الظاهرتين. بعض الأفلام المحسوبة على الموجة الجديدة صُنعت خلال الفترة القصيرة للسيادة الليبراليّة (تزيد قليلاً عن الثمانية أشهر). في ذلك الوقت كانت الموجة في أوجها، بينما كان الاهتمام العالمي بها يتناقص تدريجياً.

إن لم يكن ربيع براغ أحد المحددات لبداية تلك الجماعة أو تطورها، فإنه بكل تأكيد كان المحدد لنهايتها. عندما ظهر الانزعاج السوفييتي من الخطاب الليبرالي الجديد في البلاد تزايدت مخاوفهم من تحول الأنظمة هناك نحو الغرب. قام حلف وارسو بقايدة روسيا بغزو تشيكوسلوفاكيا. وما لبث الحلف أن أجرى بعضاً من التدابير القاسية تحت عنوان “الاصلاح” أو ما بات يعرف بـ”التطبيع”.

سينمائياً، أُجبر الابداع الفني على الانحناء والتواري قليلاً. وبعض المخرجين لم يعودوا قادرين على صنع الأفلام (مثل إيفالد شورم) والبعض الآخر اضطروا لمغادرة البلاد (مثل فورمان و باسر و يان نيميك – الذي صرّح ذات مرة انه يصوّر أفلامه عل عجل خوفا من قيام السلطات بإيقاف التصوير فجأة) بينما اضطر آخرون لمقايضة حريّتهم الابداعيّة مقابل بقاءهم في سوق العمل (مينزيل مثلاً).

كانت أحداث العام 1968 خارجة عن المألوف حتّى بالنسبة للمخرجين كما هو واضح. وان كنت تبحث عن الخلفية التاريخيّة و الألم الشخصي الذي خلّفته الجغرافيا السياسية فعليك التوجه للأدب: رواية ميلان كونديرا (كائن لا تُحتمل خفّته) ليست فقط واحدة من أكثر الاداءات الأدبية شعبية في تلك الحقبة العاصفة، بل انها تم تحويلها إلى فيلم على درجة عالية من الحساسيّة على يد فيليب كوفمان في عام 1988. ويذكر أن احد رواد الموجة الجديدة “يان نيميك” كان من المشرفين على انتاج هذا العمل تلك الفترة.

بعض الأفلام التي كان من المقرر صنعها منذ ما قبل الغزو نجحت بالخروج إلى النور قبل أن يقوم النظام الجديد بممارسة طغيانه على السينما، إلا أنها تمّ حظرها وبقيت مخفية عن الأنظار حتى أواخر الثمانينات، تحديداً مع بدء ظهور التشققات الأخيرة في جسد الشيوعيّة، من ضمنها كان فيلم جيريس (الدعابة) الذي كتب له السيناريو “ميلان كونديرا” حيث شكّل الأساسات لروايته الأولى. (كونديرا، في حال كنت تتساءل عن سبب ظهور اسمه أكثر من مرة، درس الأدب في مدرسة لصناعة الأفلام في براغ وكان مقرّباً جداً من المخرجين).

في التسعينات، كان من الممكن لمخرجي الموجة الجديدة العودة لإنتاج أعمالهم من جديد، لكنها لم تكن أبداً لتنافس تلك التي قاموا بها في فترة الستينات. فقط “كارال كاخينا” و “نيميك” استطاعا الوصول من بعيد لما يُشبه انتاج تلك الحقبة. مع ذلك، فإن مجموعة جديدة من المخرجين الشباب ظهروا وحازوا على الإلهام من تلك الأفلام الكلاسيكيّة وأعادوا السينما التشيكيّة لكسب الإشادة الدوليّة من جديد.

البدايات

في الواقع إن اساسات الموجة الجديدة تم وضعها خلال فترة تسبق عام 1963 على يد مخرجين كبار في الخمسينيات. شملت القائمة: اوتاكار فافرا، فويتيش ياسني، كارال كاخينا، إلمار كلوس، يان كادر وفرانكيشيك فلاتسيلا. حيث اندحر تدريجياً الفيلم الستاليني البروباغاندي الممل وبدأت أفلام جديدة تحتوي على لمسة انسانية جميلة تركّز على الطبيعة البشرية أكثر من الأيديولوجيا بالظهور شيئاً فشيئاً.  

ظهور هذه الأفلام في فترة ما قبل الانفراجة الكبيرة في السينما التشيكية في الستينات جعلها مغمورة نوعاً ما، بل لم يعرف عنها العالم الكثير. الآن فيلم واحد منها متوفر بشكل تجاري وهو فيلم “حمامة بيضاء” عام 1960 لـ فلاتسيلا، مع ذلك فإن اهتمامها بالشباب ومشاكلهم اليومية تستحق النظر من باب التمهيد، حتى أنها تميزت بإسلوبها البصري البديع (فلاتسيلا درس تاريخ الفن في الجامعة). حبكة الفيلم تدور حول تأثير شفاء الطائر الجميل المذكور في العنوان على مهرج وصبي صغير عانى من بلطجة الآخرين عليه ففقد ثقته بنفسه. المرارة والعزلة التي تعاني منها الشخصيات الرئيسية للفيلم هي اسقاط على ما ينتجه الاستبداد من قهر على الأفراد والمجتمعات. بل ان الحمامة التي تشفى هي بحد ذاتها اسقاط أكبر بكثير. مع ذلك، يمكن لأي شخص أن يستمتع بمشاهدة الفيلم بغض النظر عن تلك الاسقاطات السياسية والتاريخية.

ميلوش فورمان، ايفان باسر و ياروسلاف بابوشك

يعتبر فورمان أشهر مخرجي الموجة الجديدة. خفّة وعفويّة اسلوبه في التصوير مع الكثير من التوحد مع تفاصيل الشخصيات واستخدام الغنائيّة والفكاهة جعله أكثر مخرجي الموجة شعبيّة وقرباً لقلوب المشاهدين. لمعرفة سر هذا الرجل علينا القاء نظرة على أعماله المبهرة في أمريكا مثل: أحدهم طار فوق عش الوقواق (1975)، أماديوس (1984) والشعب مقابل لاري فلينت (1996). أول اثنين حصلا عل عدة جوائز أوسكار من ضمنها أفضل إخراج لفورمان.

One Flew Over The Cuckoo's Nest 2

خلال حياته المهنية التشيكية عمل مع اثنين من أهم المساعدين في كتابة السيناريو: ايفان باسر و ياروسلاف بابوشك الذين سيصبحان مخرجين فيما بعد. إلا أن باسر فقط من نجح بالوصول إلى العالميّة.

كما هو الحال مع العديد من مخرجي الموجة، بدأ فورمان بتسليط الضوء على قضايا الناس العاديين الذين لديهم القليل من الاهتمام بالمشاكل الأيديولوجية وينشغلون عوضاً عنها بمشاكل شخصيّة أكثر. تماماً كما وصفها فورمان نفسه، أنه يريد التقاط “مشاكل الحياة، أفراح وأحزان هؤلاء الناس الذين ليس لديهم أدنى اهتمام بأن يصبحو يوري غاغارين..” (نقلاً عن كتاب الموجة التشيكوسلوفاكية الجديدة لبيتر هاميز). بل ان فورمان حقيقةً يذهب لأبعد من ذلك. حيث أن شخصيّاته لا يفشلون بكونهم أبطالاً فحسب بل انهم يسقطون في ملائمة القوالب الجاهزة التي يضعها المجتمع فيجدون أنفسهم ينتمون للاشيء. ومن أجل تمثيل أكثر دقة لطبيعة هذه الشخصيات يعتمد فورمان على غير الممثلين في تقديم أنفسهم أمام الكاميرا تاركاً لهم الارتجال.

لذا، نلاحظ هنا أننا أمام موجة نموذجية بحد ذاتها تستتر داخل الموجة الأصلية. حيث كان فورمان و معاونيه يعتبرون غير اعتياديين حتى بالنسبة لزملاءهم في الموجة الجديدة الذين لطالما فضّلوا الممثلين المحترفين على الهواة والنصوص المعدة مسبقاً على الارتجال والتدقيق البصري على التقاط طبيعيّة المشهد. يرجع ذلك ربما لأن أيّا من ثلاثتهم قد تخرّج من كليّة صناعة الأفلام التي انتمى إليها بقيّة المخرجين. ربما كان هذا هو الاختلاف. بالاضافة لكون فورمان صاحب علاقة قديمة بالمسرح، وأنه بالأساس درس كتابة السيناريو.

بعد مساهمته في كتابة بعض السيناريوهات و عمله كمساعد مخرج في الخمسينيات قام فورمان بصنع اول أفلامه القصيرة في بداية الستينيات. عمله الطويل الأول كان “بطرس الأسود 1963″ يتحدث عن شاب يترك المدرسة ليعمل كمخبر في أحد المتاجر بعد أن يجبره والده على ذلك، ليقوم بعدها بتأسيس علاقة مع فتاة هناك تشاركه حالة اللامبالاة السياسية التي يعيشها. لكن الفيلم أيضاً يحتوي على محاكاة مباشرة للتبرير الذي استخدمه الشيوعيون لكونهم يعتمدون على قوات الشرطة السريّة: “نحن نثق بالشعب، لكن علينا أن نتحقق”. أحدث الفيلم ضجة كبيرة في تشيكوسلوفاكيا، ودخل المنافسة في مهرجان لوكارو السينمائي، وتغلّب على أفلام غودار وأنتونيوني.

في عمله الثاني، “غراميات شقراء 1965″، كان فومان أكثر طموحاً واستخداماً للسخرية في النقد الاجتماعي. الأحداث تبدأ في احدى البلدات النائية والتي، وبسبب سوء تخطيط اشتراكي، تحتوي على عدد نساء يفوق عدد الرجال بكثير. وصول وحدة من المحاربين القدامي للبلدة لإعادة التوازن بين الجنسين فيها يصيب النساء هناك بخيبة أمل كبيرة، حيث كانوا يأملون بوصول جنود بأجساد جميلة وبسن أصغر بكثير. بين هذا كله، تحلم أندولا، شقراء الفيلم، بالزواج. لتستغل وصول فرقة موسيقية لإقامة علاقة مع عازف البيانو فيها وتتورط بما لا يسُر والدا الشاب في براغ.

935d5-bhk2340a

في عمله الثالث “كرة رجل الإطفاء 1967″ كان قادراً على جلب المنتج الايطالي كارلو بونتي ليوفر المال الكافي لتصوير الفيلم بالألوان. إن كان “غراميات شقراء” قد احتوى على كمية كبيرة من النقد الاجتماعي اللاذع بصورة مبطنة فإن “كرة رجل الاطفاء” أخرج ذلك كلّه إلى النور. الفيلم يدور حول حفل تكريم لتقاعد قائد وحدة رجال الاطفاء والمصاب بالسرطان، خلال الاحتفالية يظهر التخبط التنظيمي لرجال الاطفاء ويقوم الضيوف بسرقة كل الجوائز المخزنة للسحب. ليظهر في نهاية الفيلم حقيقة واحدة، قائد الوحدة هو الرجل الشريف الوحيد هنا.

على الرغم من لمسة فورمان الهزلية و حساسية التعامل مع الممثلين الذين كانوا رجال إطفاء حقيقيين، إلا أن الفيلم يُنظر له نظرة تشاؤمية كبيرة. حفل فورمان الغريب استقبله العالم بردود مضطربة حوله. حتى ان كارلو بونتي احتقر العمل ككل وطالب باستعادة نقوده، بينما يدعي فورمان أنه كان على وشك دخول السجن بسبب هذا الفيلم. محبوب فورمان “الفيلم” تم انقاذه بطريقة غريبة من غرفة المصادرة، حيث حمله “نيميك”، صديقه و أحد رواد الموجة الجديدة، وتم تهريب النسخة لخارج البلاد حيث قام بتنظيم عرض خاص للفيلم لكل من فرانسوا تريفور و كلود بيري، الذين قررا شراء حقوق التوزيع.

بالرغم من ردود الفعل السلبية تجاه الفيلم في أمريكا إلا أنه كان تذكرة فورمان للسفر إلى هوليوود حيث سيقوم بإخراج أول فيلم أمريكي له. بينما كان هناك، بدأ الغزو لتشيكوسلوفاكيا، كان هذا عندما قرر أنه من الأفضل أن لا يعود إلى هناك مجدداً.

the_firemens_ball_1080p_bluray_x264_sdtv_00_39_4

في حركة اعتمدت على الملاحظة الدقيقة لتفصيلات الحياة الصغيرة كثيمة رئيسية لها، صنع “ايفان باسر” ما قد يكون الصورة الأكثر دقة بينهم كلّهم: “أنوار حميمية 1965″. فيلم لطيف و أحد أهم أفلام الموجة الجديدة للسينما التشيكية، بالكاد يحتوي على خط درامي يفصلنا عن روح الدعابة الكبيرة التي يتمتع بها صديقان موسيقيان يلتقيان في الريف. على غرار فورمان، سيقوم باسر باستكمال مسيرته المهنية في أمريكا، حيث سيتحول توجهه بالكامل حو السرد الدرامي كما في أفلام “وُلد لينتصر 1972″ وفيلم “القانون والفوضى 1974″.

يوري مينزل وبوهميل هرابل

عندما سُئل مينزل عن أفضل فترة عاشها في حياته وأكثرهم سعادة قال: “لقد كانت الستينات عندما بدأت مسيرتي. كان وقتاً مثالياً، وجوّاً مثالياً ومكاناً مثالياً لصنع الأفلام. بل وكان هناك ما يمكن تسميته بالعقيدة الإخراجيّة. لكن، وفي المقابل، لم يكن هناك حريّة عمل تامة. ولكن الجميل هنا هو عدم جود مسؤوليات مادية وقتها. أفلامنا كانت محط اهتمام ويطلبها الجمهور. لقد كنت سعيداً جداً ومحظوظاً لانني ساهمت في تل الموجة. هذا أفضل شيء حصل لي في حياتي”. (من كتاب مقابلات مع مخرجي الموجة الجديدة لروبرت باشار).

واحد من أكثر الأفلام اربتاطاً بالموجة التشيكية الجديدة، وليس شرطاً أن يكون واحداً من ضمن الأفضل، كان فيلم “اللؤلؤ من الأعماق 1965″. ليس فقط لأنه جمع بين 5 مخرجين رئيسيين من الموجة الجديدة في فيلم واحد جعلهم كأنهم يعلنون إنطلاقهم رسمياً بل لإنه ربطهم مع السيناريست بوهميل هرابل، الذي امتلك موهبة فظيعة جعلته قادراً على التقاط جميع إيقاعات الحياة التشيكية اليومية، وبالتالي كان له التأثير الأكبر على حركة الإخراج الجديدة.

من بين كل ما قدّمه هرابل فقد برع تحديداً في تحويل الرويات إلى افلام للشاشة الكبيرة. كانت هدية العالم له هي حصوله على أوسكار عن فيلمه “قطارات مُراقبة عن كثب 1966″ ماخوذ عن رواية تحمل نفس الإسم لهرابل الذي ساعده مينزيل في كتابة السيناريو الخاص به. كما هو الحال بالنسبة لأفلام الموجة الجديدة فالبطل شاب غريب الأطوار وفاشل لكنه يهتم بقضايا شخصية صغيرة أكثر من اهتمامه بالأحداث السياسية الجسام التي تدور حوله.  ميلوش، شاب جديد يعمل كمُساعد على خط قطارات جبهة المانيا الشرقيّة زمن الحرب العالمية الثانية، مع ذلك، ميلوش لا يهتم بالسياسة كثيراً ولكنه يهتم فقط بالتفكير حول كيف سيفقد عذريته؟ حيث يأمل الانضمام للمقاومة التشيكية والتي ستساعده على ذلك كما يعتقد.

4

مثل العديد من أفلام وسط أوروبا، قبل و بعد الستينيات، فإن الفيلم يدور بمجمله حول تعريف العلاقة بين الفرد والقوى التاريخية المسيطرة عليه، وتعريف السعادة والبطولة. ساخراً من السلطة ومبجّلاً للإهتمامات الدنيوية. هذا ما احتاجه الجمهور تماماً. انتشر الفيلم وأصبح أيقونة جديدة في السينما العالميّة.

السر وراء هذا الفيلم هو بالتأكيد اجتماع كل من مينزيل وهرابل معاً في فيلم واحد. لاحقاً سيتبنى مينزل ثلاث روايات أخرى لهرابل ويعقد العزم على اخراج فيلم آخر له في التسعينات لكنّ خلافاً حول حقوق الملكيّة نشب وقتها وانتهى الأمر في المحاكم إلى أن تم اختيار المخرج الجديد للفيلم وكان ذلك عبقري السينما التشيكية في التسعينات “يان هربايك”.

فيرا تشايتلوفه

بالنظر إلى أن أغلب مخرجي الموجة الجديدة اهتموا بالتفاعل الجنسي للشباب وأنهم كانوا مخرجين ذكور في الكلّ، فمن المهم ملاحظة وجود جانب مؤسف احياناً في طريقة النظر لطبيعة الذكر. حتى جاءت لنا فيرا تشايتلوفه بأعمالها الكاملة لإحداث بعض من الموازنة في هذا الشان. لاحقاً قيل عنها أنها “فيمينست”. مع أنها رفضت هذا اللقب تماماً.

أجرأ أفلامها وأكثرهم ابداعاً في مسيرتها المهنية كان “الاقحوانات 1966″. الفيلم يروي قصة فتاتان مراهقتان مدللتان وكلتاهما تسمى “ماري”. تحصلان على القصاص من المجتمع الذكوري الكهل بطريقتهم الخاصة. الفيلم يطرح نفسه كمضاد للعدمية، حيث يوجهون اللوم للطبيعة الأنانية المدمرة لاثنتين من الفتيات واللامبالاة العامة من قبل الشباب. وهذا تقريباً كان الغطاء لتشايتلوفه من أجل الهجوم على كل من المجتمعات الشيوعية والديمقراطية الذين خنقا الفردية من خلال نظام السلطة الأبوية. يمكن القول أن هذا الفيلم هو أحد الأفلام التي تستحق المشاهدة رغم ما وصف به من قبل الخصوم بأنه فيلم “ثرثرة بلهاء لا أكثر”. لكنه يبقى فيلما تجريبياً مفرطاً بالفكاهة والنقد الساخر. مُنع هذا الفيلم من العرض جزئياً في تشيكوسلوفاكيا بحجة اهدار الطعام ” في الوقت الذي يعاني في مزارعونا من مصاعب جسام في التغلب على مشاكل الانتاج الزراعي” كما قال عنه أحد نواب مجلس الأمه عليه.

3765197217_2776bbd97b_o

سمعة فيرا في الغرب تقتصر تقريباً على فيلم “الاقحوانات”. لكنها، على الرغم من ذلك، بقيت نشطة في عالم صناعة الأفلام، وعملت تحت سلطة كل الانظمة التي عاصرتها خلال العقود الأربعة الأخيرة. بقيت أفلامها مثيرة دوماً للجدل لصراحتها و مواكبتها للحدث الاجتماعي المسيطر (كانت من أوائل المخرجين الذين صنعوا أفلاماً عن الايدز، عام 1988). كانت على الدوام في ورطة مع النظام الشيوعي، لكن ذلك لم يتوقف حتى بعد زواله. في الحقيقة، تم سجنها لفترة في سجن ألماني أثناء تصويرها لفيلم “الطرد من الجنّة 2000” لان السلطات اشتبهت بتصوير فيلم إباحي عن الأطفال: تجري أحداث الفيلم في مستعمرة من العراة.

توفّت تشايتلوفه في مارس الماضي بعد 85 عاماً عاشتهم بين أفلامها، بينما اعتبرت أن السينما والثقافة انتهت ولم تعد كما كانت قديماً.

الموجة الجديدة والهولوكوست

لطالما أُعتبر فيلم سبيلبيرغ “قائمة شندلر 1993″ هو، و بجدارة، الذي فجّر مرحلة الهوس السينمائي بالمحرقة. لكن لا يجب اعتباره الأول من نوعه الذي يتحدث عن هذا الموضوع أبداً. كان لسينما وسط أوروبا سجل حافل، وان كان غير مستمر، في الحديث عن المحرقة وتصوير الصدمات التي تسببت بها للناجين منها. هذه معلومة لا ينبغي أن تكون صادمة، كون وسط اوروبا، هو المكان الفعلي لحدوث المحرقة، وأن تلك البلاد كانت معقلاً لملايين اليهود الذين شكلوا المظهر الثقافي للبلاد على مدى التاريخ. فرانز كافكا، على سبيل المثال، كان يهودياً ألمانياً عاش في براغ.

في تشيكوسلوفايا، صنع “ألفريد رادوك” أول فيلم عن المحرقة بعنوان “رحلة بعيدة” في العام 1949. رادوك نفسه كان نصف يهودي وتم نقله خلال الحرب إلى بولندا لكنه نجح بالهرب فيما بعد. لكن، مع ذلك، العديد من أفراد عائلته قتلوا في أحداث الهولوكوست، بعضهم مات في أحد المعسكرات القريبة من براغ والذي تجري فيه أحداث فيلمه هذا. كان من الواضح تأثر رادوك بفيلم أوريسون ويلز “المواطن كين 1941″. وعلى خُطى ويلز، تمكن رادوك من صنع فيلم قوي بصرياً من خلال التعاون مع مصورين سينمائيين محترفين.

أُعتبر الفيلم لاحقاً من كلاسيكيات السينما التشيكية، وحظي باهتمام مثير. إلّا ان منعه من العرض خلال فترة صدوره جعلت رادوك يؤمن بصعوبة العمل في هذه البيئة. لكنه يُعتبر أحد الملهمين الكبار للموجة الجديدة (ميلوش فورمان، مثلاً، عمل معه في أيامه الأولى).

أفلام الستينات في التشيك كانت غالباً مبنية على إعادة النظر في التاريخ السياسي للبلاد وفضح عيوب التفكير الوطني خلال المرحلة المستهدفة. ولإن الحرب العالمية الثانية كانت مازالت عالقة في الأذهان، فإن الاهتمام بالمحرقة كان أمراً طبيعياً. مع ذلك فإن الأدب كان قد سبق السينما في التعامل مع هذا الأمر تحديداً. نكتشف ذلك من كتابات الايطالي بريمو ليفي مثلاً.

كان لكتابات “ارنوس لوستج” في تشيكوسلوفاكيا أهميّة خاصّة. مع 4 اقتباسات سابقة لأعماله، وهي: الإنتقال من الجنة 1963، ألماس الليل 1963، ديتا ساكسوفا 1968، صلاة من أجل كاثرين هورويتز 1969. بينما كان فيلم الهولوكوست الأكثر شهرة هو “دكان في الشارع الرئيسي 1965” الذي جمع ببراعة بين الفكاهة الحساسة وبين الرعب في تصوير عملية ترحيل اليهود من سلوفاكيا إلى بولندا ورعونة أولئك الذين وقفوا ليشاهدوا كل هذا وهو يحدث. الفيلم يركز على شخص بائس اسمه تونو، وتَسلّط زوجته المادية عليه وهي تدفعه للاستيلاء على محل يهودي عندما أصبح عمل اليهود مستهدفاً بشكل مباشر. يبقى متردداً في البداية، ثم يزداد الشعور لديه كما عند بقية الشعب بكره اليهود، أو ما يسمونه بمعاداة السامية، فيقرر أخيراً القيام بفعلته، لينتج عنها أحداث مأساوية.

نذكر هنا فيلمين آخرين حول هذا الموضوع قام بهما مخرجين من سلوفاكيا وهما: المُلاكم والموت 1963 و حارق الجثث 1968. أمّا في فترة “التطبيع/ التسوية” التي بدأت مع العام 1968 فإننا بالكاد نرى أفلاماً تتحدث عن المحرقة. كان هناك مثلاً فيلم “ليلة المحاصرين معي 1986”، والذي اقتبس منه سبيلبيرغ فيلمه “قائمة شندلر”. بينما، وعندما سقط الاتحاد السوفييتي، أفلاماً اكثر بدأت تظهر، وأصبح الحديث عن المحرقة واستكشاف التاريخ اليهودي وقتها عملاً رائجاً بين المخرجين مع بدايات القرن الجديد. أبرز مثال كان المرشح الأوسكاري “متفرقين نسقط 2000″ للمخرج يان هربايك.

8dHEo560UKFjrFqvqxlJsvulRk6

“متفرقين نسقط” كان من الأفلام التي لم تحاول جرّ الدموع على مصيبة اليهود. بل انه ركّز أكثر على قضايا أخلاقيّة وفلسفية تدور حول الهوية الوطنية و تقبّل الغرباء. تزامن صدور الفيلم مع انتقاد الاتحاد الاوروبي للفقر الدبلوماسي للدولة بعلاقتها مع الأعراق الأخرى، فكان بمثابة رد على هذه الشبهة من خلال استعادة التاريخ مجدداً. الفيلم بشخصيته العامة جداً والتي لا تخلو من الظرافة يعتبر الوريث الشرعي لعباءة الموجة التشيكية الجديدة.

 يُتبع…

إعداد وبحث وترجمة إسلام السقّا

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.