“القمّة والقاع” (بالانجليزيّة: High and Low) هو إحدى إبداعات “اكيرا كوروساوا” الخالدة. الفيلم، الذي تمّ إنتاجه في العام 1963، مقتبس عن رواية الأمريكي “إد ماكبين” بعنوان: فدية الملك. في البداية دعونا نتساءل: ما الذي جعل “كوروساوا” يصنع الفيلم؟ حسناً، هنالك سببين لهذا:
-
السبب الأوّل كان رد فعل على ما رءاه تساهلاً من جانب النظام القضائي الياباني تجاه المتهمين بقضايا الخطف، حيث شعر بأنّ عقوبتهم كانت مخففة جداً. هذا الأمر سيتطرق إليه الفيلم بشكل مباشر عدة مرّات.
-
السبب الثاني يدور حول اهتمامه الشخصي بجانب معيّن في رواية “ماك باين” وهو كيف يمكن لشخص أن يخطف من يشاء ثمّ يُطالب جهة ثالثة بالفدية رغم عدم وجود صلة قرابة بين الشخص الذي تم اختطافه والشخص المطلوب منه الفدية.
الترجمة الحرفيّة من اليابانيّة لإسم الفيلم هي: الجنّة والنّار. قد لا يقدّم الفيلم لنا صورة قاسية لجشع الشركات الكبرى كما حدث في فيلم The Bad Sleep Well مثلاً. لكنّه يبقى فيلماً من الدرجة الأولى، ومثال واضح على إختلاف سينما ما بعد الحرب في اليابان.
القصّة:
* تنويه: هناك حرق للأحداث*
تم تقسيم الفيلم لجزئين، النصف الأوّل منه يدور حول إعادة الطفل المختطف في بداية الفيلم. في حين أنّ النصف الثاني هو قصّة بوليسيّة تركّز على طريقة تعقّب المجرم والإيقاع به.
مع بداية الفيلم نلتقي كينجو جوندو (يلعب دوره: توشيرو ميفوني)، وهو مدير تنفيذي ثري في شركة الأحذية الوطنيّة، وتقع مواجهة بينه وبين مدراء آخرين في الشركة في محاولة منهم لضمّه لهم في مخططهم للسيطرة على الشركة.
ما لا يعرفه هؤلاء الرجال هو أنّ “جوندو” لديه خطّته الخاصّة للسيطرة على الشركة لنفسه. وعندما كان يقوم بوضع اللمسات الأخيرة على الصفقة التي ستجعله رئيس الشركة يتلقّى إتصالاً هاتفيّاً يفيد بأنّ إبنه قد تمّ إختطافه.
عندما يعود إبن “جوندو” بعد دقيقة من ذلك الاتصال نكتشف أن الطفل المختطف هو إبن سائقه الشخصي.
هنا أُجبر “جوندو” على البقاء في موقف لا يُحسد عليه. إمّا أن يدفع الفدية المطلوبة ويخسر بعدها حياته وطموحه من أجل فتى ليس حتّى إبنه. أو أن يقوم بمجازفة على أمل أن لا يقوم الخاطف بقتل الفتى. لكن بعد ضغوطات زوجته وتوسّلات سائقه يقوم بدفع الفدية في النهاية ويتم إرجاع الطفل بعد مشهد مثير على متن القطار السريع.
في الفصل الثاني من القصّة يبدأ المفتش “توكورا” بعمليّة واسعة للإيقاع بالمجرمين يتخللها لحظات دراميّة ومثيرة. في المشهد الأخير نرى “جوندو” والخاطف وجهاً لوجه قبل إعدام الأخير.
التحليل:
يميل “كوروساوا” في أفلامه الحديثة إلى التركيز على ما يرى بأنه “مشكلة” مع المجتمع الياباني. هذه العلل الإجتماعيّة أخذت شكل الصحافة الشعبيّة في Scaalnd، والماكنة البيروقراطيّة في Ikiru وسلسلة طويلة من أعمال الفساد في The Bad Sleep Well.
في High and Low يتناول “كوروساوا” مجموعة متعددة من المواضيع. هنا “جشع الشركات” يقل الحديث عنه عندما تتدخل حالة الطفل المخطوف في سيناريو الاحداث. لكنّ الموضوع يبقى مخيّماً على أجواء الفيلم حتّى نهايته.
من الواضح ان “كوروساوا” لا ينظر للرأسمالية نظرة إحترام أبداً. كلّ رجال الاعمال في أفلامه، خصوصاً هذا الفيلم، يبحثون فقط عن مصلحتهم الشخصيّة، وذلك لا يتم إلا من خلال الإحتيال على الزبائن. هنا يقوم المدراء الآخرون في الشركة بمحاولة إقناع “جوندو” بالانضمام إليهم في مشروعهم حول خفض تكاليف الإنتاج على حساب الجودة من خلال نوع جديد من الأحذية توصّلوا إليه. في واحدة من إنفعالاته العاطفيّة القليلة يقوم “جوندو” بتمزيق الحذاء الجديد. موضّحاً أن زبائنه لن يتم خداعهم لطالما بقي هو في الشركة.
هذا الموقف تجاه الرأسماليّة يبدو أنه يسير جنباً إلى جنب مع مشاعر “كوروساوا” تجاه أمريكا نفسها والنفوذ الذي تمارسه على بلاده. تلميحات “كوروساوا” تجاه هذه التأثيرات غالباً ما تكون خفيّة وغير مباشرة. مثلاً، هنا الطفلين الصغيران يلبسان زي رعاة البقر و “الشريف” ويلحقان بعضهما البعض ويطلقان النار في جميع أنحاء المنزل من بنادق وهميّة. هذا هو التأثير الذي تركته الولايات المتحدة داخل الشباب الياباني.
مثال آخر كبير على هذا يحدث في منطقة “الضوء الأحمر” في الفيلم عندما، وفي مشهد واحد، يدخلون أحد البارات التي تنبعث منها الموسيقى الأمريكيّة وتعرض المشروبات الأمريكيّة واسمها مكتوب بالانجليزيّة على البوابة كدلالة على الغزو الأمريكي الثقافي للبلاد. ربّما أراد كوروساوا توجيه رسالة مفادها أن كل علل البلاد يرجع أصلها لما سمح بحدوثه أهل البلاد أنفسهم.
معالجة “كوروساوا” لشخصيّة الخاطف مثيرة جداً. حيث يجعل المشاهد يتذمّر مع أبطال الفيلم من العقوبة المخففة للخاطفين في القانون الياباني لكن وبعد بضعة دقائق تجدهم متعاطفين مع الخاطف في مواقف معيّنة. يقوم “جوندو” والمفتّش بزرع صورة المجرم المجنون في عقل المشاهد حتّى يصدّقها، بينما يُصدم في النصف الثاني من الفيلم بأنّ الخاطف هو رجل عاقل وذكي جداً. على العكس تماماً مما رأيناه في النصف الأوّل من الفيلم. في الحقيقة لا يخفى علينا أن “كوروساوا” يميل للتعاطف مع خصومه، لا سيما في Drunken Angel. والفيلم الذي نتكلم عنه اليوم لديه حالة مشابهة.
بعد أن نتعلّم قليلاً عن شخصيّة الخاطف نبدأ برؤية الأمور من وجهة نظره. هنا تماماً يأتي الموضوع الأهم الذي يتناوله الفيلم، هو الفرق بين هؤلاء الذين هم في “القمّة” والآخرين الذين هم في “القاع”. ربّما كانت الترجمة الحرفية لإسم الفيلم باليابانيّة أفضل من اسمه الانجليزي لإنه يوضح تماماً مقصد وهدف الفيلم. الفرق بين الجنة والنار.
هذه الجنّة التي نراها من اللقطة الأولى ممثلة بنوافذ السيّد “جوندو” الكبيرة والتي تدخلها الشمس. كلّما فتح نوافذه يُقحم “كوروساوا” ضوضاء المدينة المزعجة. ضوضاء الذين هم في الأسفل. ليعاود “جوندو” إغلاق نوافذه التي تفصل عن “القاع”!
الإنتقال بين النصف الأول للفيلم (القمّة) والنصف الثاني (القاع) يأتي بمشهد عندما تباشر الشرطة تحقيقاتها. تتبع الكاميرا رجلا الشرطة لتلتقط إنعكاس الخاطف على المياه وهو يمشي بالاتجاه المعاكس على الجهة الأخرى لتلحقه الكاميرا ونتعرّف قليلاً على مكان معيشته والزاوية التي يرى منها منزل “جوندو” الفخم اعلى التلّة بعيداً عن شوارع المدينة القذرة.
نقطتا تحوّل لاحظتهما في الفيلم. الأولى كانت مع رجال الشرطة الذين بدا عليهم التوتر والامتعاض من “جوندو” في بداية الفيلم، إلّا أنهم سرعان ما غيّروا رأيهم فيه بعد أن قرر التضحية بنفسه وإنقاذ الطفل. بل وجعلوا إرضاءه غايتهم في البحث عن الجاني طيلة النصف الثاني من الفيلم.
النقطة الثانية كانت مع “جوندو” نفسه. عندما أمر زوجته بإحضار أدوات الخياطة القديمة ليقوم بإشغال يديه في تخييط الكبسولات الملوّنة بنفسه داخل الحقائب التي وضع بها المال.
في الحقيقة نلاحظ التعب الكبير الذي بُذل على شخصيّة”جوندو”. ذلك الرجل الثري الهادئ الذي سرعان ما تحوّل لبركان من الغضب. يجوب القاعة ذهابا ومجيئاً. يحاول تجنّب النظر في العينين. يحافظ على مسافة بينه وبين والد الطفل المختطف والذي يعمل سائقاً لديه منذ زمن طويل. بينما نراه في وقت لاحق، تحديداً بعد تسليمه للمال، وهو يجز العشب خارج المنزل وكان في حالة يرثى لها من التشتت الذهني تشبه الغيبوبة.
إلى ان نصل إلى مشهد النهاية والمواجهة المباشرة مع الخاطف المحكوم عليه بالإعدام. يبدأ “جوندو” بالتعاطف مع الخاطف في المشهد الأخير وينهار تماماً. وهذا ما لا يتحتمله الخاطف أبداً، لايريد نظرة الشفقة على عينين من تسبب بدخوله للسجن. لكنّه ينهار هو الآخر في نهاية الأمر.
يبذل “كوروساوا” جهداً مميزاً هنا بإظهار وجه كلا الرجلين من خلال إنعكاس وجه أحدهم على الزجاج في كلّ مرة. وكأن الكلام يبدو مطابقاً على كليهما عندما يبدأ الحديث عن الندم حول حياتهم الماضية.
ما يريد “كوروساوا” إيصاله هنا هو أن هذين الرجلين لديهم قواسم مشتركة بعد كل شيء. قضى الفيلم وهو يظهر الفوارق بين “القمة” و”القاع” لكن ما يريد حقاً أن يقوله هو أنّ كل شخص يجب أن يُعامل على قدم المساواة. في الواقع هذا كان هدف حياته المهنية. محاولاً الإجابة عن التساؤل ” لماذا لا يحب البشر بعضهم البعض؟”.
في عمل سابق له، Sanjuro، حاول “كوروساوا” أن يضفي بعض الألوان على مشاهد معيّنة لكنه لم يستطع بسبب ضعف الامكانات. لكن في هذا الفيلم نرى اللون الوردي المنبعث من المدخنة التي حرق بها الخاطف الحقيبة التي زرعت فيها الشرطة الكبسولة الملوّنة.
رغم عدم أهميّتها في بناء الفيلم إلا أنها كانت مثيرة للإهتمام. هذه التقنية التي أعاد استخدامها “سبيلبيرغ” في فيلمه Schindlers list بعده بسنين عديدة.
